جرائم الغرب الآسيوية
كوريا
لا أظن أن رئيسا أمريكيا بعد نيكسون ينسى تجربتى كوريا وفيتنام. فهاتان التجربتان كانا ربما أقسى على الأمريكيين من كل ما شاهدوه من قبل من حروب. والأدهى من كل ذلك أن التجربتين قد كللتا إما بالهزيمة والإنسحاب فى فيتنام أو بالإقرار بالأمر الواقع فى كوريا.
نحن الآن فى عام 1945 فى شهر يوليو وقد إجتمع قادة الدول المنتصرة فى مدينة بوتسدام الملاصقة لبرلين، حيث أن أحوال برلين الخربة لم تكن تسمح بأية إجتماعات وعلى ذلك عقد الإجتماع فى بوتسدام بحضور ستالين، مضيف الإجتماع حيث أن برلين كانت واقعة فى القطاع السوفيتى، وترومان الضيف الأهم وتشرشل الذى جاء ليشهد هبوط بلاده من مرتبة القوة العظمى إلى مرتبة القوة الثانية بعد القوتين الأعظم. وفى شهر يوليو من ذلك العام كان إستسلام ألمانيا قد مر عليه شهران حيث أنها إستسلمت رسميا فى 8 مايو من ذلك الربيع. أما على الجانب الآخر من العالم فكانت الحرب لا تزال مستعرة على جبهة المحيط الهادى بين الولايات المتحدة واليابان التى كانت تأبى الإستسلام. واليابان كانت مرتبطة باتفاقية عدم إعتداء مع الإتحاد السوفيتى منذ ما قبل إندلاع الحرب. وعلى ذلك فلم يكن هناك جهد حربى على الحدود بين البلدين حيث أن كليهما كان منشغلا فى مصيبته الأكبر، السوفيت مع الألمان واليابانيون مع الأمريكيين. وقد أخبر ترومان حليفه السوفيتى ستالين فى ذلك الإجتماع أن لدى الولايات المتحدة الآن سلاح جديد هائل التأثير التدميرى قد تم إنتاجه عقب إستسلام ألمانيا مما وفر على الألمان أن يكونوا أول ضحايا تجربته. والواقع أن ستالين كان لديه معلومات لا تقل دقة عن المعلومات التى كانت بحوزة ترومان عن هذا السلاح بفضل جهود الجاسوس كلاوس فوكس الألمانى الأصل الهارب من النازية والذى كان ينقل أسرار تلك الأبحاث أولا بأول من أمريكا إلى السوفيت بدافع مثالى بحت وهو أن يمنع إنفراد أحد القوى فى العالم بهذا السلاح حتى لا يقع العالم فريسة لأطماع تلك القوة. والواقع أن المرء يندهش من مدى قوة جهاز المخابرات السوفيتى فى ذلك الوقت وكذلك من سذاجة المخابرات الأمريكية (لم تكن وكالة المخابرات المركزية قد أنشئت بعد) حيث أن ستالين كانت له شبكة هائلة من العملاء داخل الولايات المتحدة بل وداخل المشروع السرى الذرى الأمريكى بل وداخل المخابرات البريطانية نفسها.
المهم أن ستالين تظاهر أمام الرئيس ترومان بأنه لا يعلم شيئا عن السلاح الجديد ونصحه باستعماله ضد اليابان. وبالفعل إتخذ ترومان القرار بإلقاء القنبلة الثانية على هيروشيما والثالثة على ناجازاكى (كانت الأولى تجريبية فى صحراء نيفادا). وعند هذه اللحظة قرر ستالين أن الوقت قد حان لكى يوسع من مدى دائرة نفوذه فأعلن الحرب على اليابان يوم 8 أغسطس عام 1945 (أى عقب إلقاء القنبلة على هيروشيما بيومين) وأرسل مليون ونصف مليون جندى سوفيتى إلى جبهة الحرب مع اليابان التى كانت حتى ذلك الحين جبهة باردة لا توجد بها عمليات حربية نظرا لوجود إتفاق عدم الإعتداء بين البلدين. فاستولت القوات السوفيتية على شبه جزيرة كامشاتكا واحتلت جزيرة سخالين فى شمال اليابان وبطبيعة الحال فإن كل الأراضى اليابانية كانت خاضعة للقوات الأمريكية فلم يبق للروس سوى الأراضى التى كانت خاضعة للقوات اليابانية، وهذه كانت كوريا. وهكذا تقدم السوفيت من شمال البلاد بينما كان الأمريكيون يتقدمون من جنوبها. وهذا المشهد لم يحدث فى الحرب العالمية الثانية للمرة الأولى. فقد كان التسابق على أرض ألمانيا أيضا حاميا حيث كان السوفيت يتقدمون من الشرق والبريطانيون يتقدمون من الغرب. وعند نقطة معينة أصدر تشرشل لجيشه الأمر بأن يطلقوا النيران على الروس لو أنهم تقدموا غربا بعد نهر الإلبه فى منطقة ساكسونيا السفلى فى شمال ألمانيا حيث أن كل شبر يستولى عليه السوفيت بعد هذه النقطة سيكون خصما من نصيب إنجلترا. وقد كانت هذه أيضا هى الحدود بين دولتى ألمانيا فيما بعد، تماما كما حدث مع كوريا.
والخط الفاصل بين دولتى كوريا اليوم هو خط العرض 38 الشهير الذى فقد الجانبان عشرات الألوف من الجنود حتى يظل هو الحد الفاصل. وقصة إختياره عجيبة حيث جرى إجتماع فى واشنطن بين قادة الجيش ورجال الخارجية ظلوا يبحثون خلاله عن حد يفصل بين القطاعين الروسى والأمريكى حتى قال أحدهم هاتوا الخريطة ثم أشار بأصبعه إلى خط 40 عرض كاقتراح من عند فقال له زملاؤه لا يمكن حيث أن ستالين لن يقبل.. فاقترح خط عرض 39 فأجابوه بنفس الرد وفى النهاية قبلوا خط عرض 38 وأبلغوا به السوفيت الذين وافقوا.
كانت القوات اليابانية تحتل كوريا منذ عام 1910 إحتلالا عنيفا قهريا لا هوادة فيه. واليابانيون عندما يحتلون إقليما فهم لا يمارسون مع أهله سياسة اللين أو سياسة فرق تسد أو سياسة التلاعب بالأطراف المحلية ضد بعضها، وإنما هم يمارسون سياسة إمبراطورية قاسية عنصرية تميز بين الناس على أساس عرقى بحت وتفرقهم إلى يابانى وغير يابانى أو سيد وشبه عبد. وكان الشعب الكورى بأسره يعيش حياة متدنية يسودها الجهل والأمية التى كانت تتعدى 90% ولم يكن هناك مرافق ولا رعاية صحية.
والآن وقد دخل الأمريكيون جنوب البلاد ودخل الروس شمالها عن طريق رجلهم الكورى كيم إيل سونج وجد الأمريكيون أنفسهم فى مواجهة ثقافة غريبة وشعب من الصعب أن يستقل لعدم وجود كوادر أو مستودع خبرة تقيم أود الدولة الجديدة. وهكذا إضطر الأمريكيون إلى التساهل مع اليابانيين الذين كانوا أدرى منهم بالشئون الكورية فتركوا لهم شئون إدارة البلاد على المستويين الأدنى والأوسط واكتفى الأمريكيون بشئون الأمن والإدارة العليا.
وجاء عام 1949 بمفاجأة ظلت الولايات المتحدة تترنح من هولها لمدة طويلة من الزمن لا تقل عن 20 عاما. لقد إنتصر الحزب الشيوعى الصينى على قوات الحكومة الوطنية بقيادة شيانج كاى شيك ونجح الشيوعيون فى طرد القوات الموالية للغرب من كامل البلاد إلى جزيرة فرموزا وبسطت الشيوعية الستالينية نفوذها على أكثر من ثلث سكان الأرض فى ذلك الزمان باعتبار الإتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية والصين. وهذه المفاجأة أربكت الأمريكيين للغاية بحيث جعلتهم يراجعون كل شىء بما فى ذلك جميع معتقداتهم السياسية والإجتماعية ومن هنا نشأت حملة السناتور جوزيف ماكارثى التى كان الهدف منها هو تطهير الجهاز الإدارى والتعليمى والقضائى والأمنى فى كامل الدولة من كل ما له علاقة مهما تضاءلت أهميتها بالشيوعية. وتطور الأمر إلى حملات منظمة وتلويث سمعة فى بعض الأحيان وإرهاب فكرى وملاحقة لكتاب ومفكرين وممثلين وفنانين وأساتذة جامعات ولم تتوقف هذه الحملة إلا عندما تدخل الرئيس الجديد دوايت آيزنهاور بعد إنتخابه عام 1952.
"سأقرر أنا كل شىء لكننى لن أفعل شىء".. كانت هذه هى كلمات الرفيق المارشال جوزيف ستالين لكل من القائدين ماوتسى تونج وكيم إيل سونج عندما عرضا عليه خطة غزو الجنوب الكورى من الجزء الشمالى الذى يسيطران عليه. والمعنى الذى كان يقصده ستالين واضح، وهو أن القرار فى الحرب والسلام سيظل فى يده وحده ولكن على الرفاق الآسيويين ألا يتوقعوا أى دعم عسكرى من جانبه بالجنود، ولكن فقط بالسلاح وعليهم هم أن يقدموا القوة البشرية والتضحيات. فما هى قصة هذا الهجوم؟
تعود قصة هذا الهجوم إلى تطور آخر هام جدا وقع أيضا فى العام الحاسم 1949. ففى أغسطس من ذلك العام نجح الإتحاد السوفيتى فى تفجير قنبلته الذرية الأولى وبذلك تحققت نظرة الجاسوس البريطانى ألمانى المولد كلاوس فوكس وكل العلماء الذين شاركوا فى تسريب سر القنبلة الأمريكية إلى الإتحاد السوفيتى وانتهى إحتكار الدولة الواحدة لهذا السلاح. وبذلك أصبح ستالين فى وضع يمكنه من النظر إلى ترومان نظرة الند للند دون أن يخشى عاقبة التنافس مع الولايات المتحدة أو كما يقال eye to eye .
ولما كان المعسكران قد فشلا فى إقامة إنتخابات موحدة لكل الجزيرة الكورية لكى يقيموا دولة كوريا على أرضها، حيث أن ستالين لم يكن مقتنعا بفكرة الإنتخابات بينما كان الأمريكيون يجاهدون لخلق مؤسسات تصلح أن تقام عليها دولة، فقد بدأ القطاعان فى التغير السريع والنمو فى إتجاهين مختلفين تماما، أحدهما محافظ يمينى فى الجنوب والآخر شيوعى متطرف فى الشمال.
والغريب أن كيم إيل سونج قد نشأ فى أسرة يدين الأب والأم فيها بالمسيحية !! فقد كان أبوه يعمل مع الإرساليات المسيحية التى قدمت مبكرا إلى كوريا فى القرن التاسع عشر. والأغرب أن التعليم الذى أراده والدا ستالين لابنهما كان أيضا هو التعليم المسيحى حيث أرسلاه لدراسة علوم الكنيسة ولكنه غير الإتجاه بعد ذلك !!
والآن وقد أصبحت الصين بملايينها الستمائة دولة شيوعية حليفة للإتحاد السوفيتى بل وتدين له بالولاء فقد فكر الزعيمان الآسيويان فى النتيجة المنطقية لهذا النصر الكبير، تصفية الأوضاع المعلقة منذ عام 1945 فى كوريا، خصوصا وأن الولايات المتحدة قد حصلت على اليابان بأسرها بينما لم يحصل الإتحاد السوفيتى بعد على شىء. وهكذا عرض الرجلان على ستالين خطتهما لبدء الإستيلاء على الجنوب زحفا من الشمال وخرقا لخط عرض 38 الشهير. واستيقظ العالم فى صباح أحد أيام يونيو عام 1950 على مئات الآلاف من الجنود الكوريين يتدفقون على الخط الفاصل ويهجمون على الدفاعات الكورية الجنوبية والأمريكية بطريقة مفاجئة وبدون سابق إنذار.
وكان الإتحاد السوفيتى قد قاطع جلسات مجلس الأمن إحتجاجا على إعتبار حكومة الصين الوطنية فى فرموزا هى الممثل الشرعى لدولة الصين، رغم أن الوزن السكاني الهائل يقع على أرض الصين التى يحكمها الحزب الشيوعى. وفى غياب المندوب السوفيتى فى مجلس الأمن وبالتالى غياب إمكانية إستعماله لحق الفيتو أصدر المجلس قرارا يتيح التصدى للغزو الكورى الشمالى بالقوة وبذلك أضفيت الشرعية على العمليات الحربية ضد كوريا الشمالية بغطاء الأمم المتحدة. وشكلت القوة الأمريكية الغالبية الساحقة من قوات الأمم المتحدة أو ما أطلق عليها قوات الأمم المتحدة وبدأت الحرب المفتوحة ضد كوريا الشمالية.
دخل الهجوم الشمالى بسرعة إلى الجنوب واحتل سيول عاصمة القطاع الجنوبى وذلك بفعل جيش مكون من 10 فرق عسكرية إلا أن التحالف المدعوم بشرعية الأمم المتحدة وبالقوات الأمريكية إستطاع فيما بعد إرجاع القوات الشمالية إلى خلف الخط 38 عرضا ولكن الحرب كانت قد تحولت إلى حرب ثابتة فى الخنادق مما جعل الصين الشعبية فى النهاية تدخل الحرب بقواتها وهو أمر جعل القيادة الأمريكية ممثلة فى الجنرال دوجلاس ماك آرثر يطالب باستعمال القنبلة الذرية لصد الهجوم الصينى بل وحدد أسماء 30 مدينة يريد أن يضربها بالقنبلة. وعلى الجانب الآخر كان ماوتسى تونج يرى أن القنبلة لا تشكل خطرا على وجود الصين حيث يروى عنه أنه قال أن الصين غنية بالسكان وحتى لو فقدنا 15 أو 20 مليون شخص فسوف تقوم الصين بتعويضهم فى خلال عشر سنوات !!
وإذا كانت طريقة التفكير هذه تبدو للبعض منكم مستهجنة بسبب عدم الإكتراث البادى بالحياة الإنسانية، فإن الطرف المقابل لم يكن أرحم بالمواطنين من ماو بل بالعكس، لقد أمر الرئيس الكورى الجنوبى رى بمجرد أن علم بالغزو فجر يوم 25 يونيو بأن يعدم جميع المساجين السياسيين وعائلاتهم وكل من يتعاطف أو يشتبه بأنه متعاطف مع الشيوعية وكذلك الإشتراكيون وأعضاء النقابات وبلغت تقديرات ضحايا هذه المذبحة مابين 100 ألف و200 ألف رجل وامرأة وطفل. والأطفال وقتلهم ليس أمرا مستغربا فى حروب آسيا التى تميزت كلها بالعنف الشديد وإنعدام الرحمة. وقد كان الأمريكيون يعرفون بوقوع هذه المذبحة ولم يحركوا ساكنا لوقفها رغم نفوذهم الهائل فى الجنوب. بل على العكس من ذلك كان الضباط الأمريكيون يلتقطون الصور أثناء إجراءات الإعدام الجماعى هذه. فالخوف الهائل الذى سيطر على أمريكا بعد تحول الصين إلى الشيوعية جعل كل شىء مباحا وكل طريق مفتوحا فى سبيل منع مزيد من المجتمعات من التحول للشيوعية. وهذه المذابح الهائلة كانت فيما بعد منذ 5 أعوام خلت محلا لإنشاء لجنة المصالحة والحقيقة فى كوريا، على غرار تجربة جنوب أفريقيا، لكشف الوقائع التاريخية ودمل الجراح القديمة.
وبالعودة إلى تاريخ الحرب ذاته يجد المرء أهوالا كبيرة إرتكبتها القوات الأمريكية خلاف مجرد مراقبة عملية مذبحة جماعية. فقد لجأت القوات الأمريكية إلى إستعمال خليط من مواد تجعل قوامه كثيفا مع بنزين أطلق عليه سلاح النابالم. وهذا النابالم كان يصنع فى المطارات الحربية الأمريكية بطريقة علنية ومفتوحة حيث يقوم عمال كوريون بخلط المواد وتعبئتها فى براميل تحملها الطائرات فى شبكة تتدلى من جسم الطائرة بها ما لا يقل عن 20 برميل كبير ملىء بالنابالم ولك برميا مفجران صغيران واحد عند كل طرف. وعندما يقترب البرميل من الأرض ينشأ الإنفجار الحارق الذى يتسبب فى إحداث نار بكثافة هائلة ينتج عنها إهلاك مخزون الأكسجين فى الجو. وهكذا فإن من لم يمت حرقا يمت خنقا بفعل نقص الأكسجين. وكان هذا السلاح يستعمل فوق المناطق التى يظن أن بها أنفاقا ومخابىء تأوى الشماليين. وهذا النابالم عرفناه نحن جيل المصريين ممن عاصر فترة بعد هزيمة 1967 صغارا حيث كانت البرامج التليفزيونية التوجيهية تعلم المشاهدين عنه وعن خطره وإلتصاقه بالأشياء وبالأجسام البشرية وصعوبة التخلص منه وكيف أن ذلك مقصود لكى يزيد من إنتشاره. وقيل أيامها أن إسرائيل قد إستعملته فى الغارات على بحر البقر ومصنع أبو زعبل.
ولو حاول المرء تصور كمية 70 ألف طن من النابالم قد ألقاها الأمريكيون فوق كوريا الشمالية أثناء تلك الحرب لتبدت لنا صورة من الرعب الإجرامى ربما تفوق كل ما وقع فى الحرب العالمية الثانية من أهوال.
وفى المرحلة التى أعقبت إرغام الشماليين على التراجع إلى خط عرض 38 حدث أن أسفر التنين الصينى عن وجهه ودخلت الصين الحرب بطريقة مباشرة وهو ما أزعج الأمريكيين كثيرا حيث أنه من المعروف أنه لا يمكن معاداة الصين ليس بسبب ثقلها السكانى ولكن فى الأساس بسبب المهارة التى يتمتع بها الصينيون فى كل شىء من حرف يدوية ومعارف متوارثة تجعلهم دائما متفوقين فى أى صراع.
وهكذا وبدخول الصين إلى الحرب بواسطة 7 فرق عسكرية أخذت أمريكا السياسية تبحث عن مخرج مبناه التفاوض بينما كانت أمريكا العسكرية ممثلة فى الجنرال دوجلاس ماك آرثر ترى أنه تحد مثل كل ما سبقه من تحديات وينبغى مواجهته كما واجهت أمريكا من قبله التحدى النازى واليابانى. وكانت نظرة الجنرال تتسم بالسطحية وعدم المبالاة ولعل أهم سبب يكمن خلف هذه النظرة هو الجهل بحقيقة وأبعاد إستعمال السلاح الذرى والعواقب التى تترتب على ذلك.
وكان الرئيس هارى ترومان واقعا فى أزمة حقيقية حيث لم يكن يريد الظهور بمظهر الرئيس المتخوف الجبان وفى نفس الوقت كان يعلم أن السلاح الجديد أولا واقع فى يد الإتحاد السوفيتى وثانيا يمكنه أن يتسبب فى قلاقل ورفض فى كل أرجاء العالم مما يصب فى النهاية فى قناة الأعداء بأن يجلب لهم على الأقل تعاطف من كافة أرجاء المعمورة. وفى أحد رسالاته الشهيرة إلى شقيقته التى كان مرتبطا بها إرتباطا عاطفيا قويا ذكر هارى ترومان أن أشد ما يقلقه فى السلاح الجديد هو "هؤلاء الأطفال"وهو ما يعنى أنه كان مدركا لما وقع فى هيروشيما وناجازاكى بفعل قراره القديم باستعمال السلاح، حيث تم تشويه جيل كامل من الأطفال الذين حكم عليهم أن يعيشوا حياة تتسم بالعذاب الشديد إن كتب لهم البقاء بعد تلقى الضربة الذرية.
والحقيقة أن الجنرال ماك آرثر كان قد تحول إلى شخص مغرور بلغ به الغرور حدا لا علاج له. فقد تهكم على رئيسه علنا فى مؤتمر ألقى فيه بيان مرسل منه إلى الحاضرين حيث وصف الرئيس ترومان بالإنهزامية والإنصياع أمام الشيوعية، وهذه الصفة الأخيرة هى ما أزعجت ترومان بشدة حيث أن ذلك الوقت كان هو زمن الماكارثية بكل عنفوانها، وكان إتهام كهذا كفيل بأوخم العواقب خصوصا على رئيس الجمهورية فى عام التجديد النصفى للكونجرس، 1950. كذلك فإن التدبر العاقل للأمر يكشف فورا أن السلاح الذرى ليس من الأسلحة التى يسهل بشأنها القرار. وهكذا وصلت الأمور إلى طريق التصادم بين الرجلين وبطبيعة الحال كانت الكلمة الأخيرة للرئيس حيث أنه هو الممثل الشرعى للمجتمع المدنى الذى يعلو ويسمو فوق المجتمع العسكرى. وهكذا خرج الرئيس ببيان على الأمة يشكر فيه أيادى ماك آرثر البيضاء على العسكرية الأمريكية ولكنه يقرر بصراحة أن لا شخص مهما علا أمره يأتى قبل مصلحة البلاد ولهذا فقد قرر إعفاء الجنرال من مهماته فى كوريا وإعادته إلى الولايات المتحدة.
وكان أن أقيم له إستقبال حافل لم يسبق له مثيل فى مدينة نيويورك وخصه الكونجرس بشرف الحديث أمام المجلسين معا وهو شرف لم ينله من قبله أحد الجنرالات وقاطعه الأعضاء عشرات المرات بالتصفيق والثناء، ولكن حياته العسكرية كانت قد أنهيت بقرار الرئيس.
وبالعودة إلى ميادين القتال يدهش المرء لدى معرفة حجم الخسائر البشرية التى قبل الطرفان بأن يتكبداها، رغم عدم أهمية موقع كوريا العسكرى أو الإستراتيجى. فكوريا لم تكن هامة بالمرة قبل الحرب العالمية الثانية وكانت مستعمرة يابانية متخلفة لم يعن أحد حتى بإلقاء اللوم على اليابان عندما قامت باحتلالها عام 1910. وكوريا ظلت كما أسلفت طوال الحرب فى يد يابانية ولم يكن أحد يريدها. وخط عرض 38 هذا هو من مواليد الصدفة وكان من الممكن له أن يكون أى خط عرض آخر. وحتى لو أن الصين قد إستولت على كامل الجزيرة فى عام 1950 فما كان هذا ليضعف الموقف العسكرى الأمريكى إطلاقا، ولكنه مجرد الخوف من الظهور بمظهر من خسر أى متر واحد فى مواجهة عدوه وذلك مهما كانت التكلفة.
والبادى هو أن الطرفين كانا على هذا الحال من العناد الذى لم ينكسر إلا بموت الطرف العنيد على الجانب الآخر، جوزيف ستالين. فقد كان ستالين قد صرح بأنه "لن يفعل شيئا"ولكنه كان يمسك بيديه كل الخيوط. فهو من يمد الجيشين الكورى والصينى بالسلاح. وهو الذى يدرب الطيارين الكوريين على الطائرات التى يجهزها لهم. وهو الوجه الذى تعمل له الولايات المتحدة ألف حساب حيث أنه الطرف الآخر الممسك بالقنبلة الذرية. كما كان هو الطرف الذى لا يتكبد أى خسائر بشرية خلافا للولايات المتحدة وإنجلترا وتركيا. وأخيرا كان هو الطرف الذى يشعر بنشوة الإنتصار ويسعد بتوسيع رقعة سيطرته الدولية.
ولكن الموت الغير متوقع لستالين فى مارس عام 1953 جاء بجيل جديد من القادة أدركوا مبكرا عبثية إنفاق مزيد من الأموال فى حرب لن تنته. كما أن وفاة ستالين تسببت فى قلاقل وثورات فى أوروبا الشرقية من جانب الشعوب التى لم تكن قابلة بالنظام الستالينى الشمولى. وبدلا من الإستمرار فى حرب لا نهاية لها ولا تعرف المكسب أو الخسارة قرر القادة الجدد فى الكرملين إستدعاء كل من ماو وكيم إيل سونج وأبلغوهما بأن الإتحاد السوفيتى يرى أن المصلحة تقتضى القبول بالتفاوض أساسا لحل الخلاف مع الغرب. وعضد من نظرهم أن رئيسا جديدا كان قد جاء للبيت الأبيض وهو رجل لم يكن يريد إشعال حروب كبيرة بسبب خلفيته العسكرية ذات الوزن الثقيل، إنه الجنرال دوايت آيزنهاور قائد قوات الحلفاء فى أوروبا فى الحرب العالمية الثانية.
وهكذا إستطاع الطرفان أن ينجزا إتفاقا لوقف الأعمال العدائية بعد أن بلغ حجم الخسائر البشرية 1.2 مليون شخص ويشمل ذلك الرقم الطرفين ويشمل كذلك المدنيين الذين يشكلون النسبة الكبرى من الضحايا. وهؤلاء هم فقط من فارقوا الحياة، ناهيك عن المصابين والمشوهين.
لقد كانت الكراهية شديدة للغاية إلى درجة أن الضابط الأمريكى المكلف بتوقيع الهدنة عام 1953 رفض التوقيع فى نفس المكان الذى يتواجد فيه الضابط الكورى الشمالى ووقع بعده فى مكان آخر حتى لا يضطر لمصافحته بعد التوقيع. وأظن أن الجيل العربى الذى شهد مثل تلك الوقائع قد تأثر كثيرا بها إذ أننا شهدنا ممارسات مشابهة من ممثلى كل الدول العربية بلا إستثناء تجاه إسرائيل فى الفترة الواقعة بين عامى 1950 و1990 أى فترة الحرب الباردة، رغم أن حروبنا العربية لم تكن أبدا على هذا الحد من البشاعة واللا إنسانية التى كانت عليها الحروب الآسيوية.
وبقيت بعد ذلك مشكلة هامة هى مشكلة أسرى الحرب بين الطرفين. وهؤلاء الأسرى كانوا كوريين من الطرفين وأمريكيين وصينيين وبعض الجنسيات الأخرى المشاركة فى قوات "الأمم المتحدة"التى كانت القوات الأمريكية تمثل 90% من قوامها !!
كانت المعضلة الأساسية فى مسألة أسرى الحرب هى عدم وجود أرقام واضحة عنهم، بل أن التقديرات تراوحت فى بعض الأحيان بين نسبة 1 إلى 10. وكانت الذريعة التى لجأ الشمال الشيوعى إليها هى أن غارات القوات الجوية الأمريكية قد ساهمت فى مقتل كثير من الأسرى الجنوبيين. وتدعى حكومة كوريا الجنوبية حتى يومنا هذا فى عام 2013 أن حكومة كوريا الشمالية لا تزال تحتفظ بمساجين من فترة الحرب. وهذا ليس أمرا مستغربا حيث أن النظرة الشيوعية للجيوش المعادية هى نظرة مجرمى الحرب. وقد احتفظ الإتحاد السوفيتى مثلا بأسرى من الجيش الألمانى لمدة تزيد عن عشر سنوات إلى أن أعادهم إلى ألمانيا عقب وفاة ستالين بثلاثة أعوام كاملة حيث أنه كان يرى ضرورة سجنهم وتشغيلهم حتى الموت.
والقسوة الآسيوية ليست محل شك. بل أن حكومة الجنوب هى نفسها قد قامت كما ذكرت بمذبحة كبيرة ضد مواطنيها غداة الغزو الشمالى لمجرد الشك فى كونهم شيوعيين أو متعاطفين مع الشيوعية. ولذلك فإنه ليس من المستبعد أن يكون هناك بالفعل سجناء حرب فى كوريا الشمالية منذ ذلك العهد.
كما أن حكومة كوريا الشمالية قامت بخطف عديد من المواطنين اليابانيين منذ عشرات السنين ولم ترجعهم إلى بلادهم، وهى على ما يبدو ممارسة ليست غريبة علي الكوريين.
وعلى الجانب الآخر فقد واجهت الولايات المتحدة مشكلة أخرى هى أن كثيرا من الأسرى الشماليين والصينيين لم يكنوا على وئام مع الحكومات التى أرسلتهم للقتال. وبذلك نشأت حاجة ملحة للتصرف فى شأنهم حيث أنهم لم يرغبوا فى العودة إلى بلادهم التى أصبح الشيوعيون يحكمونها بقبضة حديدية. وفى البداية كانت الولايات المتحدة ترى أن ذلك يشكل مشكلة إلا أنها نجحت بعد ذلك فى إستغلال ذلك الرفض للعودة كدليل على فشل النظام الشيوعى وعدم جاذبيته حتى أن المواطنين لا يريدون العودة لديارهم طالما كان الحكم شيوعيا.
ولأول مرة فى التاريخ الحربى كان أن خير الأسرى بين العودة والبقاء فى كوريا الجنوبية وكان هذا الإجراء يتم بأن يجلب الأسرى إلى خط عرض 38 ويتركون لكى يقرروا بأنفسهم ما ينوون عمله، أى أن الإختيار كان ماديا وآنيا وحاسم النتيجة فورى الأثر. وهو إجراء لا يتفق وقواعد الحرب حيث أن القوانين المتعلقة بالأسرى توجب إعادتهم إلى الدولة التى كانوا يحاربون فى صفوفها. وهذه العملية قد تم تصويرها سينمائيا وتليفزيونيا عديد من المرات حتى تذاع على العالم بأسره لكى يعرف الناس مدى رفض المجتمعات للنظام الشيوعى.
وفى النهاية فإن حرب كوريا قد أثبتت إخفاق السلاح الذرى حيث أن تعقل ترومان فى مواجهة تهور ماك آرثر جعل من هذا السلاح نقمة وليس نعمة حيث أن المجتمع الأمريكى نفسه إنقسم حول جدواه وإمكانية إستعماله. كما أثبتت تلك الحرب إستحالة حل المشاكل السياسية الإجتماعية بالسلاح حيث أن الصين التى تمثل أكبر كتلة سكانية منظمة فى التاريخ الإنسانى عندما دخلت الحرب إمتنعت القوة العظمى عن الإستمرار خشية الدخول فى حرب إستنزاف تحطم أمريكا ذاتها (وإن كان ذلك قد وقع بالفعل بعد ذلك بخمسة عشر عاما فى فيتنام).
كذلك أثبتت حرب كوريا فشل نظام الرجل الواحد القوى (ستالين) حيث أنه بمجرد موته المفاجىء تغير موقف الإتحاد السوفيتى وتبنى من فوره سياسة التفاوض والمهادنة.
والأهم من كل ذلك أن تلك الحرب قد أظهرت عجز الدول الديموقراطية أو التى تقول عن نفسها أنها ديموقراطية، عجزها عن رؤية الحق والعدل فى أحوال المواجهة العسكرية. فالولايات المتحدة أغرقت كوريا الشمالية بقنابل النابالم الحارقة كما أسلفت ولم تراع فى ذلك قواعد الإشتباك ولا أحكام الحرص على المدنيين. وقد حرم النابالم فى عام 1980 دوليا ولكن الولايات المتحدة عادت واستعملت صيغة أخرى منه فى حرب العراق عام 2003 لضرب تشكيلات الحرس الجمهورى بقنابل أساسها الحارق كيروسين وليس بنزين !!! وفى تبريره لذلك صرح البنتاجون أن الكيروسين أخف وطأة من البنزين على البيئة !!
وكل تلك الدروس كانت على ما يبدو غائبة عن الرئيس الأمريكى ليندون جونسون عندما تذرع بحادثة لم تقع من الأصل لكى يشن حربا جديدة على آسيا القاسية نتج عنها هزيمة مهينة للولايات المتحدة، هى حرب فيتنام.
↧
جرائم الغرب الآسيوية
↧