بدأ جيلنا يدرك حقائق الحياة بعد النكسة مباشرة ونشأنا جميعا فى جو حرب الإستنزاف ثم وقف إطلاق النار ثم تمديده ثم التخلى عنه دون أن يتغير الوضع منذ مارس 71 إلى أكتوبر 73.
وفى تلك الأيام كانت الرقابة مفروضة على الصحف الأجنبية فلم يكن يأتى إلى داخل مصر إلا ما قد قرأه الرقيب وأجازه. وبالتالى لم نكن نسمع كثيرا عما يقال فى الصحف والتليفزيونات الأجنبية. ولكننا كنا جميعا نقرأ عبارة الغطرسة الإسرائيلية وذلك بمعدل 300 مرة يوميا.
ومنذ عدة شهور شاهدت برنامجا وثائقيا عن 40 سنة على حرب أكتوبر وما قبلها على التليفزيون الألمانى عرض فيه لظروف حرب 67 مرورا بالإستنزاف ثم الجبهة المتجمدة وأخيرا حرب أكتوبر والنجاح الباهر الذى حققته مصر فى البداية ثم إنقلاب الموازين وانفلات الجبهة مما حدا بالرئيس السادات إلى أن يقبل وقف إطلاق النار بعد أن كان قد رفضه قبلها بأسبوع واحد.
وهو كله كلام معاد ونعرفه جميعا.
ولكن الذى لم أكن قد رأيته من قبل هو تلك الغطرسة الإسرائيلية التى قابلت بها جولدا مائير الصحفى الذى أجرى معها لقاءا تليفزيونيا باللغة الإنجليزية.
والواضح أن الهدف من كل الحديث كان إستفزاز الرئيس السادات حيث أننى أظن أنه عقد فى عهده فى الفترة التى كثر فيها الحديث عن مبادرة فتح قناة السويس فى بداية عام 71.
فقد كانت تجلس مسترخية على كنبة وتضع يدها على خدها وترتدى ملابس النزهة أو حياة الإجازة ولم تكن حتى ترد بالالفاظ على الصحفى وإنما كانت فقط تومىء برأسها قبولا أو رفضا.
سألها الصحفى أنت تريدين مرتفعات الجولان فأومأت برأسها ولم تجب بالصوت. وقال لها والضفة الغربية ففعلت نفس الشىء وهى جالسة مسترخية وكأنها تحادث جارتها فى شأن من شئون المنزل. وقال لها والقدس الشرقية أيضا لا تريدين إخلاءها فأومأت بنفس الطريقة. ثم سألها عن سيناء وهل تريد إرجاعها فأومأت رأسها رافضة. وقال لها وماذا عن قناة السويس؟ هل تريدين لمصر أن تعيد فتحها بعد أن تنسحبين من الضفة الشرقية لها؟ فأجابت بإشارة الرفض أيضا برأسها..
وهنا قال لها الصحفى ألا تزالين تعتقدين أن موقفك هذا لا يتسبب فى حرب فى الشرق الأوسط؟ وهنا تكلمت..
فقالت هؤلاء لا يحاربون ولا أظنهم يقدرون على القتال. ثم سكتت.
طبيعى أن هذا الحديث مقصود بطريقته هذه جس نبض الرجل الجديد فى القاهرة أنور السادات. وأظن أن هذا الحديث ومما يبدو منه لى قد أجرى قبيل أحداث مايو 71 أى عندما كان السادات على درجة متدنية جدا من القوة وكان ضعفه داخليا وخارجيا كاملا. وهى بصفتها إمرأة تحكم أقوى جيش فى الشرق الأوسط ثم تجلس بهذه الطريقة المتساهلة للغاية ولا تعبر عن العرب إلا بألفاظ تشى بالإحتقار هى كلها كانت ترتيبات مقصود منها جر رجل الرئيس الشرقى الجديد إلى موقعة لا يختارها هو حسب ظروفه ووفقا لأوضاعه ولكن يحددها غباؤه ورعونته وقابليته للإستفزاز حتى يخسر من جديد.وهو ما لم تنجح فيه إسرائيل.
وكما ذكرت لكم من قبل فقد سمعنا مئات المرات عن الغطرسةالإسرائيليةولكننا أبدا لم نكن قادرين على لمسها بالصوت أو الصورة أو حتى الكلمة المكتوبة.
وفى أحد أيام أغسطس 73 كنت أنتظر أبى فى المطار قادما من الخارج وخرج علينا بعدد من مجلة نيوزويك عليه صورة الرئيس السادات على الغلاف بجانب سيلويت الهرم ومكتوب عليه ( مصر، هل تتجه للحرب؟ مع وضع إسم الرئيس السادات أسفل صورته).
وقد عرفت فيما بعد أن هذا العدد منع من دخول مصر من جانب الرقيب ولم تكن لغتى تسمح لى بأن اقرأه وعندما سألت أبى قال أنهم يتهكمون على السادات ويعتبرونه عاجزا. ولم يزد كلمة واحدة.
والحقيقة أن أبى فى موقفه هذا لم يكن مختلفا عن مجموع المصريين بل والعرب وكل العالم. فمعظم المصريين كانوا غرباء عن فكرة الحرب مرة أخرى من بعد أن تجرعوا مرارة الهزيمة فى عام 67. ومعظم العرب لم تكن لديهم ثقة فى قدرة مصر على الصمود فى مواجهة عسكرية ناهيك عن أن تأخذ هى زمام المبادأة بشنها. والعالم كان متلهفا على نزع فتيل الحرب الباردة وكان سعيدا جدا بأن توصل إلى صيغة الوفاق Detenteوهى كلمة فرنسية كان الصقور من الأمريكيين يعيبون على إدارة نيكسون إستعمالها لأن معناها ليس واضحا وكانوا يسمونها الكلمة الفرنسية المنمقة.
إلا أن الرئيس السادات عندما تلقى تقرير السفير السوفيتى عن اللقاء الذى عقد فى موسكو فى شهر مايو 72 بين نيكسون وبريجنيف لم يعجب بمصطلح الإسترخاء العسكرى Relaxationفى الشرق الأوسط - وكما روى هو فيما بعد شخصيا فى عدة خطب - إلى درجة أن أمله قد خاب فى الإتحاد السوفيتى.
وهكذا شعر الرئيس السادات أنه قد ترك وحده من الحليف الدولى الوحيد الذى كان يعتمد عليه فقرر اللجوء إلى مغامرة ربما بدت فى عيون كثيرين غير محسوبة وهى طرد الخبراء السوفيت بالكامل من مصر. وقد ورد فى التقرير الوثائقى بالتليفزيون الألمانى أن السادات سأل السفير السوفيتى إن كان قد أبلغه بكل شىء أم أن هناك شىء يود قوله. فرد السفير بأن كل ما لديه قد تم التصريح به.
وعندئذ قام السادات بإملاء السفير قراره المزلزل للعلاقات الدولية بإخراج الخبراء جميعا من مصر. وقد كان السادات فى جميع خطبه يقول أنهم 17 ألف فرد بينما الواقع حسب الفريق الشاذلى مدعما بهذا الفيلم الوثائقى أنهم لم يتجاوزوا السبعة آلاف فقط.
وعن هذه اللحظة قال كيسنجر أن هذا القرار قد نبهنا إلى حقيقة شخصية السادات وعرّفنا طبيعته التى كنا غافلين عنها. فمن يتخذ قرارا كهذا دون أن يكون لديه وثيقة تأمين مع أمريكا هو ليس شخصا عاديا. ثم أردف فيما بعد أننا لسنا ممتنين للرئيس السادات بسبب إتخاذ هذا القرار الذى قلب الموازين. إذ أنه قام باتخاذه وحده ولم يتشاور معنا مسبقا وبالتالى لسنا مدينين له بشىء. وقال كلمته الشهيرة: "لماذا يتوجب علينا دفع ثمن لشىء حصلنا عليه مجانا؟"