ولكن..
ولكن نظرا لوجود هذا التفاهم المسبق بين القاهرة وواشنطن كانت الولايات المتحدة فى حالة حرص على شيئين لا تريد فقدهما. أولهما هو التفوق الإسرائيلي عسكريا وبالذات أمام الرأي العام الإسرائيلي فى الداخل والذى بدأت ثقته تهتز فى قدرة جيش الدفاع على الإحتفاظ بمركز القمة بين جيوش الشرق الأوسط، هذا من ناحية، ولكن من الناحية الأخري كان كيسنجر حريصا أيضا ومن خلفه نيكسون على ألا تضيع فرصة الحصول على مصر فى السلة الغربية أو على الأقل الحصول على نوع من التفاهم المشترك modus vevendi الذى يجعل مصر تقف موقفا متوسطا بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي.
ويبدو أن فكرة الموقف المتوسط هذه كانت مسيطرة ليس فقط على تفكير كيسنجر ونيكسون، ولكنها كانت تملك على الرئيس السادات عقله وشعوره ولكن بالنسبة للولايات المتحدة. وقد ذكر هيكل فى كتابه السلاح والسياسة أن الرئيس السادات قد إستدعاه سرا إلى قصر القبة قبيل نهاية الحرب وأدخله من باب خلفى للقصر بينما نائب الرئيس حسين الشافعي ينتظر فى الخارج ولا يحصل على موعد للقاء الرئيس، وفى هذا اللقاء ذكر الرئيس مصطلح "موقفا وسطا"ليس بالنسبة لمصر ولكن بالنسبة للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، أى أنه كان يريد أن يجعل موقف الولايات المتحدة أكثر إعتدالا وأقل ميلا تجاه إسرائيل، حيث أن عدم الإنحياز لإسرائيل مستحيل من وجهة نظره.
(كرر الرئيس هذا الرأي بعد ذلك فى مواجهة جنود وضباط القوات المسلحة فى أحد زياراته للجبهة بعد الحرب بعدة شهور فى عام 1974 وقال أنه لا يحلم بألا تنحاز أمريكا لإسرائيل، ولكنه يحاول أن يجعلها أقرب للإعتدال).
ومن يريد أن يحافظ على هذا التفاهم الجديد الوليد لابد له أن يمنع إسرائيل من تحطيم القدرة العسكرية المصرية.. ولهذا الغرض كان كيسنجر متفهما لمطالب الرئيس السادات المتعلقة بسير القتال، حتى وإن لم يعبر عنها بالكلمة، ولكنها مفهومة من الوضع العسكرى.
والآن لنسرد الأحداث كما وقعت فى تلك الظروف العصيبة لنحاول تفهم دوافع كل طرف:
1. فى أعقاب قبول مصر بوقف إطلاق النار، دون الرجوع إلى سوريا، حاولت إسرائيل إعتبارا من مساء يوم 22 أكتوبر أن تمدد من نطاق الثغرة فى الغرب إلى الجنوب وحتى ميناء الأدبية مما جعل الرئيس السادات يطلب عن طريق بيان موجه للدولتين العظميين أن يبادرا بإرسال قوات لمراقبة الإلتزام بوقف القتال والحفاظ على أوضاع الخطوط كما كانت عليه من مساء 22 أكتوبر.
2. قبل الإتحاد السوفيتى الدعوة مباشرة وأصدر بيانا ذكر فيه أن الوحدات البحرية متجهة إلى الشرق الأوسط تحمل القوات المطلوبة حسب الطلب المصري.
3. رفضت الولايات المتحدة الفكرة بحسم وأعلن نيكسون وضع القوات الأمريكية حول كل العالم فى حالة تأهب قصوى وشمل ذلك الأمر العسكرى الطائرات القاذفة للقنابل النووية وهى ما كان يسمي وقتها القاذفات الستراتيجية حيث أن الصواريخ لم تكن قد تقدمت كما هو الحال اليوم.
4. رضخ الإتحاد السوفيتي كالعادة للتهديد الأمريكي وأوقف السفن المحملة بالجنود والتى كانت متجهة إلى الشرق الأوسط (مصر بالتحديد حيث أنها من تقدم بالطلب).
5. عوض الإتحاد السوفيتي تراجعه الواقعي بهجوم لفظي شديد البيان حاد اللهجة فى خطاب موجه من بريجنيف إلى الرئيس الأمريكي ذكر فيه بريجنيف أن الإتحاد السوفيتي لديه القدرة على محو إسرائيل من الوجود!! (وهي حقيقة لا ينازع فيها أحد، ولكن الخصم لم يكن إسرائيل بل الولايات المتحدة)!!
6. حرصت الولايات المتحدة على تلبية مطلب الرئيس السادات بفتح الطريق إلى الشرق أمام قوافل الإمدادات إلى الجيش الثالث المحاصر منذ حوالى أسبوعين حيث قدمت له إمدادات مقصورة على الطعام والماء دون سلاح ودون ذخيرة. وقد تم ذلك بضغط أمريكي كبير على إسرائيل إذ أن كتلة الليكود التى يرأسها مناحم بيجن كانت من أشد المعارضين لذلك الإذن وفى النهاية أنفذت الولايات المتحدة إرادتها على الحكومة الإسرائيلية.
هذه هي الوقائع كما جرت زمنيا والتعليق عليها يحتاج إلى بحث طويل ليس هذا هو مجاله.
وما يهمنا هنا هو أولا بحث تصرفات الرئيس السادات وثانيا محاولة فهم طبيعة التصرفات الإسرائيلية.