Quantcast
Channel: Marefa.org blogs
Viewing all articles
Browse latest Browse all 231

انهيار برج بابل الانترنت؟

$
0
0

لم يكن التمرّد، إذ لم يعدْ التمرّد على الهيمنة الأميركية (بالمؤسسات والشركات والإستخبارات) على الإنترنت، سوى أمر شائع في تلك الشبكة. لم يكن التمرّد، هو الذي ميّز مؤتمر "نت مونديال"الذي إختتم أخيراً في مدينة "سان باولو"في البرازيل. وحضرت أخيلة التمرّد وذائقته بقوّة في "نت مونديال"عبر ترؤسِهِ من قِبَل رئيسة البرازيل ديلما روسيف، وهي يساريّة إنتمت طويلاً لحركات تمرّد مسلّحة ضد الهيمنة الأميركية في بلادها. 

لم يكن التمرّد هو ميزة "نت مونديال". وكذلك لم يأتِ تميّز القمة من أنها جأرت بأصوات الخوف والغضب والإنكشاف المريع. إذ باتت تلك الأمور منتشرة كعتمة في ليل طويل، بعد الفضيحة التي فجّرها خبير المعلوماتية الأميركية إدوارد سنودن عن تجسّس "وكالة الأمن القومي"على شبكات الإتصالات عالميّاً. 

ومنذ تفجّرت تلك الفضيحة، لم تكف الدول والرؤساء والمؤسّسات عن الحديث بالصوت الواضح عن رفض تحويل الإنترنت إلى عين عالميّة لـ"الأخ الأكبر"الأميركي في التجسّس على الأرض. وفي هذا السياق، لا بد من القول أن الإستثناء العربي في هذا المجال يفقأ العين بوضوحه. لم ترتفع أصوات المؤسسات العربية بهذا الشأن أبداً، ولا حتى همساً. 

برج بابل الإنترنتولم تكن تلك الأمور كلّها هي المميّزة لقمة "نت مونديال". الأرجح أن قمة "نت مونديال"تميّزت أساساً بالغياب الأميركي عنها. فمنذ انطلقت شبكة الإنترنت الى الإستخدام الواسع المعولم في تسعينات القرن الماضي، لم تغب أميركا عن قمة عالميّة عن الإنترنت. من المستطاع القول من دون مجازفة كبرى، أن أميركا اهتمّت بالانترنت أكثر مما فعلت دولة في الكرة الأرضيّة. ومثّلت الشبكة الأداة الأهم والظاهرة الأبرز، في مسار العولمة المعاصرة. وسواء تعلّق الأمر بعولمة منفلتة ومتوحشّة أو بأخرى عادلة وإنسانيّة، فإن أميركا هي في قلب هذا المسار الذي يرسم الزمن المعاصر.

حضرت أميركا في مؤتمر "مجتمع المعلوماتية"الذي تبنّته الأمم المتحدة في مستهل القرن 21. تحضر الولايات المتحدة في المؤتمرات المتوالية التي يرعاها الإتحاد الأوروبي، وكذلك التي تنعقد برعاية اليونيسكو. وتحضر أميركا عبر حكومتها وشركاتها ومؤسساتها التي تكوّن الخيوط الأساسية في الشبكة العنكبوتية الدوليّة.
 
لماذا إستمرار الحضور الأميركي؟ ببساطة، لأن لا انترنت من دون أميركا. إذ تستقر الكومبيوترات الضخمة التي تدير حركة الإنترنت عالميّاً في أميركا. وتسمى تلك الأجهزة "الأُطر الأساسيّة" ("ماين فرايم"  Main Frame). وتعطي الـ"ماين فرايم"المرتكز الرئيسي لسيطرة هيئة الـ"آيكان"الأميركية على شؤون الإنترنت. ويختصر مصطلح "آيكان"  ICANN إسم "هيئة الانترنت للتعيين الأسماء والأرقام" Internet Corporation for Assigned Names and Numbers. وتعطي أسماء النطاق تعريفاً عن نشاط الموقع، ومدى استقلاليته والمساحة التي تسيّطر عليها عبر الشبكة. 

واحتكرت هيئة "آيكان"توزيع أسماء النطاق (مثل ".كوم"و".غوف"و".إديو"، إضافة الى الأسماء المعبّرة عن الدُوَل)، الإنترنت منذ ما يزيد على 45 سنة، أي حتى قبل انتشارها عالميّاً.  وعلى رغم أهمية الخارقة، لا تعبّر الـ"آيكان"إلا عن الجزء الأبسط من ضرورة أميركا للإنترنت، وهيمنتها عليها أيضاً. إذ يعرف الجميع أن شركات المعلوماتية والكومبيوتر العملاقة، والشركات الرئيسية لصناعة الـ"هاي تيك"برمّتها، والقسم الأشد حيوية في صناعة البرامج والتطبيقات والمكوّنات الرقميّة كافة، تستقر في أميركا. نعم. لا إنترنت من دون اليد الخفيّة أو الظاهرة لـ"العم سام". 

مسار للتفتّت.. ربما 


لأن أميركا هي "الروح في الآلة" (بحسب وصف ديكارت للروح في الجسد)، شكّل غيابها عن قمة "نت مونديال"البرازيلية الحدث الأبرز فيها. وبسبب الغياب الأميركي المُدوّي، من المستطاع النظر إلى قمة "نت مونديال"باعتبارها نقطة بارزة في مسار ربما يؤدي إلى انهيار "برج بابل"الانترنت.
  
لم يأتِ الأمر بصورة مفاجئة. الأرجح أن بداياته الفعلية ابتدأت من أميركا (أيضاً وأيضاً)، تحديداً من هيئة الـ"آيكان"نفسها. ففي العام 2009، أثناء قمة دولية عن أسماء النطاق استضافتها العاصمة الكورية الجنوبيّة سيول، فاجأت الـ"آيكان"الدول كافة بقبولها التخلّي عن حقّها الحصري بإعطاء أسماء النطاق (واستطراداً، استمرار وجوب كتابتها بالانكليزية)، والسماح بكتابة أسماء النطاق بمجموعة من اللغات الحيّة. وترافق القرار مع إعطاء البلدان الحق في منح أسماء نطاق متّصلة بإسمها داخل حدودها الجغرافيّة والسياديّة.

حينها، اعتبر كثيرون الأمر بمثابة الخطوة الأولى في تفكك الانترنت. ورُبِط الأمر أيضاً مع وصول باراك أوباما الى البيت الأبيض، بأكثر من معنى. فمن ناحية، مثّل قرار الـ"آيكان"في قمة كوريا الجنوبية تنفيذاً لوعد انتخابي من أوباما. ومن ناحية اخرى، عبّر الأمر عن صعود الهويات الخصوصية في الإثنية والعرق والدين واللون وغيرها، وهو أمر عبّرت عنه رئاسة أوباما في السياسة أيضاً، سواء لكونه أفريقي- أميركي أو بسبب تأييده من قبل "هويّات"خصوصيّة كالأميركيين من أصول إسبانيّة وشرق آسيوية، والنساء ومثليي الجنس وغيرهم.

وثمة مسار آخر للتفكك يجيء من مجريات الإنترنت. ألم تتحوّل بسهولة إلى المكان الأبرز لظهور الهويات المتناثرة عرقياً وإثنياً ودينياً وغيرها؟ ألا تسير يوميّاً نحو تعدد ضخم في اللغات والمحتويات وغيرها؟ 

والأرجح أنه يصح القول بأن أشياء مثل فضيحة التجسس الإلكتروني الأميركي الشامل، حفزت المساعي للاستقلالية عن الانترنت التي تراقبها عين الإستخبارات باستمرار. ربما تمثّل الدعوة إلى "إنترنت إسلاميّة حلال"، شكلاً باعثاً على الإبتسام المستخف. ربما أكثر جديّة، هي استقلاليّة الانترنت الصينية، المتأتيّة من الهيمنة القمعية لحكومة بجينغ، على عوالم الانترنت في أراضيها. ولم تفلح المواجهة الضخمة بين شركة "غوغل" (التي ناصرها الكونغرس ووزارة الخارجية الأميركية) وحكومة بجينغ في كسر هذه الصورة. 

وبين فضيحة سنودن وقمة "نت مونديال"، أعلنت مجموعة دول الـ"بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا) عزمها على بناء شبكة خاصة تربط تلك البلدان، بطول 34 ألف كيلومتراً، تمر في مدينة فلاديفوستوك في روسيا و"سان باولو"في البرازيل و"شانتو"في الصين و"تشيناي"في الهند، و"كيب تاون"  في جنوب إفريقيا. ويتوقع أن ينتهي العمل في تلك الشبكة في 2015. ألا تذكّر تلك المجريات بأسطورة بناء "برج بابل"في التوراة؟ فبموجب ذلك النص، تآزر البشر في بناء برج شامخ باستمرار، طالما أن البشر استطاعوا التفاهم بلغة موحدة جمعت ذكاءهم وصبّته في عمل موحد. وإذ غضب الرب من السعي المتفاخر للإنسان- الديكتاتور، عمد إلى حلّ ما زال إدراك غاياته عصياً: إعطاء لغة لكل مجموعة. وتقول التوراة أنه لما تبلبلت ألسنة البشر، وفَقَدَ ذكاءهم الجماعي عَصَب تواصله الأساسي، إنهار ذلك البرج. أتسير الإنترنت نحو مصير مشابه؟ وأي علو سامق كانت تروم التطاول لملامسته أصلاً؟  


Viewing all articles
Browse latest Browse all 231

Trending Articles