إلا أنه على ما يبدو فإن الرئيس السادات وهنرى كيسنجر بعد طرد الخبراء السوفيت قد خطا كل منهما خطوة تجاه الآخر حيث أن الثابت من حكايات الرئيس السادات نفسه ومن مذكرات هنرى كيسنجر ومن مذكرات حافظ إسماعيل أن لقاءات مصرية أمريكية قد جرت فى مطلع عام 1973 أى عقب طرد الخبراء بستة شهور وكان مكانها الولايات المتحدة وكانت سرية الطابع حتى أن الإتحاد السوفيتى على ما يبدو لم يحط بها علما. أو ربما أحيط بها علما من باب الضغط المصرى والتلويح باللجوء للقوة العظمى الأخرى بعد أن خذل السوفيت المصريين فى لقاء موسكو بين الرئيسين نيكسون وبريجنيف (من وجهة نظر الرئيس السادات بالطبع).
وهذه الخطوة بالذات كانت فى غاية الحذق والمهارة من جانب الرئيس السادات إذ أنه كان يعلم بالتأكيد أن إسرائيل سوف تعلم بها فور وقوعها مما يغذى لديها الشعور بالغطرسة والتفوق الكاسح. إذ هاهو رئيس الدولة الأكبر على الجبهة بعد أن طرد السوفيت من مصر يطلب من الأمريكيين التوسط لحل الأزمة. وهنا يقول السادات أن حافظ إسماعيل قد سمع فى أمريكا ما لا يحب وما لا يحبه السادات حيث أن الأمريكيين قالوا له أن موضوع الشرق الأوسط هو حصان ميت وأن العرب جثة هامدة لا حراك فيها ولا بها وأن على من يريد التسوية أن يحرك الموقف حتى تستطيع أمريكا التدخل.
وفى تقديرى الشخصى أن وثيقة التأمين التى تحدث عنها كيسنجر عقب سماعه خبر طرد السوفيت قد تم إبرامها فيما بعد من خلال زيارات ومباحثات حافظ إسماعيل. وهنا لابد من إستعادة كلمات الرئيس الأسبق آيزنهاور عندما قامت بريطانيا وفرنسا بغزو بورسعيد وإنزال المظليين حيث أن أول رد فعل خرج من فيه كان"الولايات المتحدة لا تعلم عن هذه العملية شيئا ولم تبلّغ بها ولم تستشر فى شأنها مسبقا".. وهو رد فعل غاضب يكشف عن طبيعة نظرة الولايات المتحدة إلى نفسها كقوة عظمى تريد أن يشاورها الجميع قبل إتخاذ خطواتهم خصوصا لو أنهم من الحلفاء. وهذه العبارة تفسر مدى تشدد الرئيس آيزنهاور فى موقفه ضد الدولتين الحليفتين وإصراره القاطع على أن ينسحبا دون قيد ولا شروط من أى نوع. ناهيك عن العوامل الأخرى الموضوعية المتعلقة بالهيمنة وكسب المراكز المتقدمة فى المواقع الحساسة كقناة السويس.
ونيكسون كان نائبا لآيزنهاور طوال فترتى رئاسته وليس من المستبعد أنه يفكر بذات الطريقة وينظر لمركز بلاده ذات النظرة وهو ما سوف نلاحظه فى موقف الإدارة الأمريكية عام 1973.
وهنا يقع السبب الذى يجعلنى أظن أن وثيقة التأمين الأمريكية التى ذكر كيسنجر عدم وجودها ساخرا من السادات فى يوليو 72 قد دخلت حيز التنفيذ فى يناير 73.
وهذا الخط الذى إنتهجه الرئيس السادات لم يختلف كثيرا عن خط عبد الناصر الذى قبل فى أغسطس 1970 وقفا لإطلاق النار لمدة 3 شهور كان فى حقيقته مشروعا أمريكيا صرفا ثم لم يمتد به العمر لكى يخطو الخطوة التالية فيه.
ووثيقة التأمين هذه سوف يكون لها شأن هام فى سير المعارك فيما بعد.
والحقيقة أننى مندهش من موقف إسرائيل من كل تلك التطورات التى إستغرقت أكثر من عام من يوليو 72 إلى أكتوبر 73.
والذى يجعلنى متأكدا أن هذه الخطوة من الرئيس السادات كانت حركة ماهرة وليست خطوة الباعث عليها هو الجبن هو أنه قد سبقها خلافه الشهير فى أكتوبر 72 مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتنحية بعض أعضائه ومنهم الوزير نفسه محمد صادق وذلك بسبب إلحاح هؤلاء على إستمرار نقص المعدات اللازمة للمعركة مما أثار عليهم حفيظته. أى أنه قبل الدخول فى مفاوضاته مع كيسنجر كان يعد العدة بالفعل للمعركة ولم يفترض أن مباحثات كيسنجر كفيلة بتجنيب مصر الدخول فى حرب. وهذا يدحض نظرية المؤامرة التى قال بها كثيرون فيما بعد من بينهم القذافى.
والواقع أن هذا يجرنا إلى بحث سبب إهمال إسرائيل لفحص ودراسة ذلك البعد الجديد فى المشكلة بينها وبين مصر. فالذى تفاوض كان هو السادات وحده ولم يشرك الأسد ولا أظنه حتى قد أبلغه بالمباحثات مع كيسنجر. وهذا أيضا لابد أنه لم يكن خافيا على إسرائيل. أى أن إسرائيل بدلا من أن تحسب حسابا لاحتمال أن تنسق مصر مع سوريا للقيام بهجوم مشترك حسبت أن الدولتين متفرقتان لا يجمعهما رابط حيث أن الأولى تفاوض الأمريكيين بينما الثانية ملقاة بالكامل فى أحضان الروس فكيف ومن أين إذن يأتى التنسيق؟
والظاهر أن أحدا لن يعرف أبدا حقيقة ما دار فى ذهن الرئيس السادات وقتها من تدبير فنحن لا نعرف إن كانت هذه مجموعة من الصدف الحسنة أم أنه كان تخطيطا دقيقا ماكرا من جانب الرئيس المصرى؟
أنا شخصيا أعتقد أنه كان تخطيطا مدبرا من الرئيس السادات للإيقاع بإسرائيل.
والظاهر أيضا أن إسرائيل لم تتحر جيدا من الولايات المتحدة عن حقيقة الهدف من التفاوض مع مصر. فكيسنجر لابد وأنه كان يريد من مصر شيئا ما حتى يدخل معها فى تفاوض، فلا تفاوض بلا هدف محدد ولو على الأقل تكتيكى.
وأظن أن الهدف من وراء مفاوضة السادات من وجهة نظره كان أولا إبرام وثيقة التأمين هذه التى تحدث كيسنجر عنها وثانيا ربماالقيام بخداع إسرائيل. أما دوافع كيسنجر فهى نفسها دوافع كل سياسى أمريكى جاء منذ ذلك الحين: الإستحواذ على مصر فى السلة الغربية للتحالف الدولى.